العبادات الدينية .. والعادات والتقاليد المجتمعية ..!!

ابراهيم ناصر الجرافي
الاثنين ، ٢٩ ابريل ٢٠٢٤ الساعة ١١:٢٠ صباحاً

 

 

إن الفلسفة الإسلامية تنظر إلى العبادات على أنها علاقة خاصة بين العبد وخالقه ' يتجسد من خلالها مدى خضوع ذلك العبد لله تعالى ومدى ارتباطه به ومدى طاعته له ' كما أن العبد ينال بموجب قيامه بأداء تلك العبادات على الأجر والثواب الكبير من الله تعالى في الدنيا والآخرة ' وبذلك فإن أداء العبادات في الاسلام تعود بالخير والفائدة على الشخص نفسه ' كما أن قبول تلك العبادات أو رفضها أمر بيد الله تعالى ' فهو وحده الذي يعلم نوايا وخفايا النفوس البشرية ' وهو وحده جل شأنه من يعرف حق المعرفة هل كانت العبادة خالصه لوجهه الكريم أم مجرد رياء وسمعة ونفاق ومظاهر ، فإذا كانت العبادة خالصة لوجه الله تعالى فإن العبادة تكون في سياقها الصحيح وتحقق الهدف الأخلاقي والسلوكي المنتظر منها ' وإذا كانت بهدف الرياء والسمعة فإنها تخرج عن سياقها الصحيح ' ويتجسد من خلالها النفاق الديني والسياسي والاجتماعي ' وتتحول من شأن خاص بين العبد وخالقه إلى شأن اجتماعي وسياسي ' الهدف منه استغلال تلك العبادات لتحقيق مصالح دنيوية وسياسية ( صل له يقرب ) ..!! 

 

لذلك نلاحظ أن بعض انظمة الحكم الإسلامية عبر التاريخ قد سعت جاهدة إلى تغيير حقيقة مفهوم العبادة من الخصوصية إلى العمومية ' حيث جعلت من أداء تلك العبادات طقوس مجتمعية وسياسية ' ما دفع بالكثير من الناس إلى أداء تلك العبادات تحت ضغوط وقيود اجتماعية وسياسية ' بل لقد وصل الحال ببعض تلك السلطات الحاكمة إلى إجبار الناس على أداء العبادات كالصلاة والصوم والزكاة ، ما تسبب في تعاظم ظاهرة الرياء والسمعة وانتشار ظاهره النفاق الديني والسياسي والاجتماعي على أوسع نطاق ، وبتلك السياسات لم يعد أداء العبادات شأناً خاصاً بين العباد وخالقهم' بل أصبح أداؤها شأناً عاماً كجزء من الطقوس والعادات والتقاليد الاجتماعية والسياسية ' واصبح العديد من الناس عبر التاريخ الاسلامي يلتزمون بأداء تلك العبادات كواجب تمليه عليهم العادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية والسياسية قبل أن يكون واجباً يمليه عليهم الدين ' وبموجب ذلك تحولت العبادات في الإسلام من عبادات وطاعات ورغبة وقناعة إلى عادات وتقاليد وإلزام وإجبار وإكراه وتعسف ..!! 

 

 وتحويل العبادات الدينية إلى عادات وتقاليد مجتمعية وسياسية ' ومن شأن خاص إلى شأن عام ' يتعارض تماماً مع الرغبة والقناعة والرضا الواجب توفرها لأداء العبادات ' فالكثير من العادات والتقاليد المجتمعية تجبر وتكره الأفراد على القيام بها حتى لو لم يكونوا راغبين أو مقتنعين بها ' وترتب على ذلك تنامي ظاهره النفاق الديني والسياسي والاجتماعي داخل المجتمع الإسلامي ' بعد أن جعل من أداء العبادات جزء من عاداته وتقاليده ' وبعد أن أصبح الحكم على الأشخاص وتقييم أخلاقهم يتوقف على مدى تظاهرهم بأداء العبادات ، فكم سرد لنا التاريخ الكثير من القصص التي تبوأ فيها أصحاب الدجل والنفاق أعلى مناصب الدولة ' وكم سرد لنا التاريخ الكثير من.قصص الغش والخداع والتغرير التي كان أبطالها بعض أولئك الذين كانوا يتسابقون على الصفوف الأولى في المساجد ، وذلك لأن الحكم عليهم كان بمجرد تظاهرهم بأداء العبادات كعادات وتقاليد مجتمعية ..!! 

 

وبذلك فإن تحويل العبادات من شأن خاص إلى شأن عام ' ومن طاعة إلى عادة ' قد فتح المجال واسعاً أمام انتشار ظاهرة الرياء والسمعة والغش والخداع والتضليل والنفاق الديني والسياسي والاجتماعي ' وقد فتح شهية أصحاب المصالح الدنيوية والاطماع السلطوية ' حيث أصبح بإمكانهم وبمجرد تظاهرهم بأداء العبادات أمام الناس ' أن يتسيدوا الموقف ويصبحوا الرعاة الرسميين للدين ويصدروا صكوك الغفران لمن يتجاوب معهم وصكوك الكفر لمن يعارضهم ' وترتب على ذلك الضرر الكبير والفادح على مسيرة الدين الاسلامي وتاريخ وحضارة الأمة الإسلامية ' فبين عشيةٍ وضحاها تحول العديد من اصحاب النفاق والرياء والسمعة والاطماع المادية والسلطوية إلى وعاظ وقادة ودعاة وخطباء ومرشدين ' فدسوا السم في العسل وشوهوا كل جماليات الدين الأسلامي ..!! 

 

في مخالفة صريحة لفلسفة الاسلام لموضوع العبادات الدينية التي أكدت على خصوصيتها بين العبد وخالقه ' والتي جعلت منها شأناً خاصاً وليس شأناً عاماً ' وجعلت القيام بها أمراً اختيارياً وليس إجبارياً ' والتي أكدت بأن الحكم على الأفراد يتوقف على سلوكياتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وليس على مجرد تظاهرهم بأداء العبادات كعادات وتقاليد مجتمعية ' وعدم الالتزام بتلك الفلسفة قد سهل ومهد الطريق أمام المنافقين والمتصنعين لتولي أعلى المناصب الدينية والقيادية والسياسية ، وبموجب تلك النظرة القاصرة لمعنى ومفهوم العبادات الدينية ، تم تسليم القيادة والسلطة خلال فترات تاريخية مختلفة لذئاب بشرية متوحشة تدثرت بثياب التقوى والزهد ، لتسوم الشعوب الإسلامية سوء العذاب ، وتحكمها بالحديد والنار ، من أجل ذلك يجب على المجتمعات الاسلامية أن لا تقع ضحية التغرير والتضليل والنفاق والرياء والشعارات ، وعليها أن تفرق بين العبادات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية ، فليس كل ما يلمع ذهباً ، وليس كل من يتظاهر بأداء العبادات زاهد وتقي ومؤمن ..!!

الحجر الصحفي في زمن الحوثي